الأستاذ كامل

صالح.. كان طفلاً مثالياً مؤدباً منذ نشأته، وكان إدراكه لمسائل الحلال والحرام والعيب والخطأ أكبر من سنه مما جعله مضرب المثل في الأخلاق والالتزام في الحي.

في الطفولة تبدأ ملامح الشخصية في الظهور

أما في المدرسة فلم يكن الأمر يختلف كثيراً، إذ كان يحرص دائماً حل والجباته، وكانت كل كتبه نظيفة، ودفاتره منظمة ومسطّرة.

كان يراجع كل يوم ما درسه في اليوم السابق، ويستعد بتحضير الدرس اللاحق، مما جعله يحصد المزيد من التميز. 

أما والديه فلم يكن يرضيهما أن يحصل على أقل من 100% وفي كل مواد دراسته.

لم يكن صالح يشعر بسعادة حقيقية من هذا الثناء والتقدير، لأنه كان يلوم نفسه لأي تقصير ويشعر بالفشل والإحباط عند أي إخفاق.

سارت الأيام وبلغ صالح سن المراهقة، ولا زال محتفظاً بنفس القدر من الجدية والاهتمام بدراسته، لكنه لم يكن محبوباً من زملائه الذين كانوا يحسدونه على تفوقه الدراسي، ويسخرون من عدم قدرته على الانسجام معهم في تجمعاتهم التي تتسم بالشغب والمرح والتعليقات اللاذعة التي لم يكن يفهمها.

حصل صالح على شهادة الثانوية العامة بنسبة عالية تؤهله لدخول أي كلية يشاء. وهنا ظهرت أولى مشكلاته، إذ لم يستطع أن يقرر بأي كلية سيلتحق. مرت الأيام وهو يسأل ويسأل ويتحرى، لكن كل تخصص له ميزات وعيوب، وهو يريد تخصصاً لا عيب فيه.

وتحت ضغط من والده استطاع أن يقدم أوراقه إلى كلية الحاسب الآلي، وقُبِلَ على الفور.  ومع أن والده فرح لذلك، إلا أن صالحاً لمي يفرح لأنه لم يكن متأكداً أن هذا هو القرار الصحيح.

لم تكن الدراسة الجامعية بنفس السهولة كالتعليم العام، مما شكل ضغطاً نفسياً كبيراً على صالح، لكنه أنهى دراسته بنجاح.

وبعد تردد مرة أخرى استطاع أن يحدد وظيفة بعينها في إحدى الشركات المرموقة.

لقد أصبح صالح الآن مهندساً، وأبدى في عمله الجديد تفانياً منقطع النظير. ومع أنه كان يعمل الساعات الطوال، إلا أن إنتاجيته كانت عادية جداً بسبب حرصه الشديد، ودقته.

لقد وضع المهندس صالح لنفسه معايير عالية في الأداء لا يمكن تحقيقها بسهولة ، مما جعل زملاءه في العمل يتندرون عليه ويسمونه "الأستاذ كامل"، حيث كان يغرق في التفاصيل والقوانين والترتيب والجداول... إلى درجة يفقد معها الهدف الرئيس من العمل الذي يقوم به.

وكانت المشكلة في شخصية المهندس صالح أو "الأستاذ كامل" تظهر بوضوح عندما يكون عضواً في فريق عمل، لأنه يصر على إتباع الآخرين لطريقته في العمل بأسلوبه الوحيد الذي لا يتجدد.


وقد تصل الأمور بـ "الأستاذ كامل" أحياناً إلى تحمل العمل على كاهله وحده، ليضمن جودته وإتقانه، مما يصنع فرصاً ذهبية للمماطلين والكسالى من زملائه، الذين كانوا يعملون على إرباكه ودفعه ليقوم بالعمل لوحده، ثم يلقون اللوم عليه عندما يتأخر في الإنجاز.

المثالية هي حالة ذهنية خطرة في عالم غير مثالي

روبرت هليلير

لذلك فقد اضطر "الأستاذ كامل" للتخلي عن صداقاته وأوقات راحته وأسرته، لكي ينجز أعمالاً قد ينجزها غيره في ربع الوقت، مما جعله يفقد الثقة بنفسه، ويميل إلى التشاؤم تجاه المستقبل.

كان "الأستاذ كامل" رجل دؤوب، ذو ضمير حي، لكنه لم يكن يصلح للقيادة، وهذا ما اكتشفته إدارته عندما رشح لرئاسة قسمه.  لم يكن يجيد اتخاذ القرارات بسرعة وثقة، ولا ينام الليل عندما يطلب منه اتخاذ قرار ما.

لذلك فقد كان يتردد ويتردد، حتى في أتفه الأمور، ثم يعود باحثاً في الأنظمة والقوانين، ليكتب لائحة طويلة من الحيثيات وأسلوب العمل المحكم لدرجة تجعله غير قابل للتطبيق.

أما في المنزل فلم تكن حياة "الأستاذ كامل" أفضل حالاً من حياته في العمل. طبيعته الجادة، وعدم قدرته على التعبير عن مشاعره، وفقدانه لروح الدعابة، مما جعل حياته الأسرية خاوية، إلا من بعض الأوامر والنواهي.

الشيء العجيب، أنه كان منظماً في بعض أمور حياته لدرجة التعقيد، لكنه فوضوي في نواحٍ أخرى، بسبب كثرة ما يحتفظ به من الأشياء البالية والقديمة التي يرفض التخلص منها أو تجديدها، بحجة أنه “قد يحتاجها”.