هل يمكن العيش بلا هموم؟

يأتيني في العيادة كثير ممن يعانون من القلق والخوف الذي يفسد حياتهم ويعيق تحقيق كثير من أمورهم. وتكون الشكوى عادة: "أنا أشيل هم كل شيء" وهم فعلاً كذلك، يمعن أحدهم في التصورات المخيفة حتى يرى مشاهد المرض والحوادث والضياع والفقر والفشل في نفسه أو من يحب كما لو أنها تحدث الساعة أمامه.  ثم لا يستطيع النوم ولا يهنأ بطعام ولا مقام لأن دماغه يعالج هذه المشاهد -من دقة تصوره- كما لو أنها حقيقة.

وفي هذا الأمر يقول الحسين بن علي الأصفهاني الطغرّائي في لاميّته المشهورة:

             حب السـلامة يثني همّ صاحبـه       عن المعالي ويغري المرء بالكسل

             أعلل النفس بالآمـال أرقبها مـا         أضيق العيش لولا فسحة الأمـل

هذه الثنائية بين الهم والأمل، مسألة نفسية غاية في التعقيد، لأن الهم والأمل لا ينفكان عن بعضهما البعض، ولا تخلو منها حياة الإنسان أبداً. وهما على طرفي نقيض، فمن أوغل في الأمل أفسد حياته بالفشل والعجز، ومن أوغل في الهم أفسد حياته بالضيق والبؤس. 

والهم هو ما نسميه في لغتنا المعاصرة "القلق"، وهو متربط بما هو "هام أو مهم".  لذلك نذكر الهم ونربطه بالمهم في حياتنا فنقول: "نشيل هم العيال، نشيل هم الدراسة، نشيل هم العمل، نشيل هم الإختبارات، ونشيل هم الزواج"... الخ من كل أمور الحياة "المهمة". 

وعند الحديث عن ثنائية القلق والأمل تظهر أمامنا ثلاثية "الهمّ والهمّة والمهمّة". ولا تخلو ثنائية القلق والأمل من 3 حالات:


الحالة الأولى: عندما يزيد "الهم" (القلق والخوف)، فيلجأ المرء لتجنب "المهمة"، و"حب السلامة" كما سماها الشاعر. وهذا يخفض مستوى "الهم" (القلق والخوف) مباشرة فترتاح النفس حالاً، لكن الإكثار من "التجنب وحب السلامة" يضعف "الهمة" وبالتالي يخفض مستوى الأداء مما يسبب الفشل في إنجاز الأمور "المهمة" في الحياة. على سبيل المثال: تجنب ركوب الطائرة أو السفر أو حضور المناسبات أو الدراسة في تخصص معين أو العمل مشروع معين، يريح من "الهم" في حينه ولكنه يخلق هماً بسبب تعطل الحياة أو فوات الفرص "المهمة".

 

الحالة الثانية: على النقيض… عندما لا يوجد أي شعور بـ "الهم" تجاه أي شيء، فتنعدم "الهمة" وتترك الأمور "المهمة".  وهذا عجز تام، لا يمكن أن تستقيم معه حياة طبيعية

أما الحالة الثالثة فهي الوسط و(خير الأمور أوسطها): عندما يرتفع "الهم" (القلق والخوف) بنسبة معقولة تجاه "مهمة" ما، بشكل يكون رافعاً "للهمة" والعمل بما يكفل إنجاز "المهمة".


فيما يلي بعض النقاط التي قد تساعد في التعامل مع "الهم" وزيادة "الهمة" ومواجهة الأمور "المهمة":

  • انقل تركيزك: في "المهمات" التي لا حيلة لك فيها من دائرة التفكير "الهم" إلى التأثير ما هو في دائرة التأثير "الهمة". وهو ما تستطيع فعله، ثم خذ فيه قراراً عملياً يساهم في إصلاح الحال وإزالة "الهم".

  • لتكن توقعاتك منطقية: من المستحيل ألا تكون هناك توقعات أو "أمل"، لكن التوقعات المنطقية تحميك بإذن الله من المفاجآت غير السارة التي تجلب المزيد من "الهم".

  • تعلم الإنحناء حتى تهدأ العاصفة: تقبل الأمور التي لا يمكنك تغييرها فأنت لست على كل شيء قدير، وليكن سلاحك حسن الظن بالله والرضا بقدره والإيمان بأن أمر المؤمن كله له خير:

إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له

  • تعلم القناعة والشكر: هذه مهارة رائعة يمكن أن تتعلمها، فأنت محاط بالكثير من النعم والأشياء الجميلة التي اعتدتها فلم تعد تراها. عندما تستشعرها وتشكر الله عليها، تكون اقدر على تجاهل الهموم التي (تفسد الواقع ولا تمنع المقدر)

  • كن مطمئناً: واستحضر قوله صلى الله عليه وسلم "ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك" فكل شيء مقدر وصائر فمن صبر جرى عليه القدر وهو مأجور، ومن جزع جرى عليه القدر وهو مأزور -والعياذ بالله.

  • كن عادلاً مع نفسك: فأنت مطالب بـ "الهمة" والعمل. أما النتائج فهي بتوفيق الله. ولكن الله سبحانه وعد: "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا".

  • لا تتوقع الكمال: من العدل ألا تتوقع الكمال من نفسك ولا من الآخرين، فتوقع الكمال يزيد الهم والقلق، ولا أنت كامل لا غيرك كامل.

  • شارك همومك: مع ن تثق به فما خاب من استشار

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة

      يواسيك أو يسليك أو يتوجع

بشار بن برد